الديالكتيك: الجدلية
مادلين غراويتز
ترجمة محمد الطيب قويدري
3.- هيغل (1770-1830). – يعد فكر هيغل غامضا، وأسلوبه صعبا، وسنكتفي هنا بإعطاء الإشارات اللازمة لفهم ما يستتبعه، وبصورة مخصوصة الماركسية.
لا ينفي هيغل المنطق الصوري. بل يريد المصالحة بين مبدأ الهوية ونقيضه مبدأ التناقض.
المنطق الصوري محدود بإثباتاته، وبصرامته نفسها: أ هو أ. إنه منطق عالم مبسط مجرد، نهائي، غير قادر على التعبير عن الحركة، المصير، وعن التناقض الملازم للأشياء.
المنطق الجدلي لا يقول إن أ هي ليست أ، وهو ما سيكون بلا معنى، لكن إذا كانت أ ترتبط بواقعٍ، ما لم تكن حشوا بلا دلالة، فإن أ تملك في ذاتها مصيرا يقع وراءها: أ هو أ، ولكن هو أيضا أكثر من أ.
«بينما يؤكد المنطق الصوري أن قضية ما لابد أن تكون صائبة أو خاطئة، فإن المنطق الجدلي يصرح أن كل قضية ذات محتوى واقعي، هي في الوقت نفسه صحيحة وخاطئة، صائبة باعتبارها متجاوَزة، خاطئة إذا ما تأكدت بإطلاق [1].»

«لا شيء في الأرض ولا في السماء مما لا يحتوي في ذاته على الوجود والعدم.»، «إن وجود شيء منتهٍ هو أن يملك في وجوده الداخلي بوصفه كذلك بذرة انقراضه، إذ ساعة ولادته هي نفسها ساعة موته» (المنطق الكبير 2: 139.)[2].
«الحد الفوري الأول للإثبات يعقبه حد ثان على المستوى نفسه لكنه يتممه وهو يقوم بنفيه. فالحدان يؤثر ويتأثر أحدهما بالآخر، ويعود الثالث إلى الأول بوساطة نفيه الثاني، فيتجاوزهما معا. فتعبر وحدة العالم عن نفسها ضمن مبدأ هوية حُوِّل إلى محسوسٍ وحيٍّ بانتصاره على التناقضات[3].»
لقد فتحت جدلية هيغل الطريق الذي سمح بتجاوز المنطق الصوري لكنها لم تصل إلى غايتها بالنظر إلى كون المثالية جعلتها، كما يأخذ عليها ماركس، تستبدل كل الواقع الإنساني بالوعي الذي عرف ذاته.
حين يعارض بين المحتوى والشكل فإن الأمر لا يتعلق بمحتوى حي، لكنه يتعلق بأفكار تتعارض فيما بينها. وتصرح الظواهرية (الظاهراتية) أن: المحتوى المعرف بأكثر دقة… هو العقل الذي يسير داخل نفسه، ويسير باعتباره عقلا. وبالطريقة نفسها يؤكد الفصل الختامي من المنطق الكبير أن المفهوم ليس أبدا خارجا عن المحتوى: ” الفكرة المنطقية هي نفسها محتواها الخاص باعتباره شكلا لا نهائيا”[4] .
هذه المناقشات حول المنطق لا ينبغي النظر إليها على أنها شكل من الترفيه عن فلاسفة. إنها تطرح مشكلة عقلنا وإذن مشكلة صرامة العلم كما تطرح مشكلة إمكانات تعرفنا. والحلول المعتمدة هي التي تقود المواقف إزاء المعرفة والعالم.
وكما سنرى لاحقا فإن ماركس و لينين المنطلقين من تحليل تاريخي وتطبيقي (عملي) للحياة المحسوسة، كان عليهما العودة إلى هذه المشكلات الفلسفية من أجل إيجاد الأساس الذي تنهض عليه المادية الجدلية.
وبينما كان الفلاسفة يخوضون نقاشا مجردا حول قواعد حسن التفكير، دون إثراء المعرفة، كانت العلوم تتقدم مكونة مناهج بحثها الخاصة بها.
وكان لابد أن يتم تجاوز خطر نفي المنطق بصورة عامة ضمن سياق عملية تفتيت منطق خاص. كما كتب غ. باشلار: «من أجل ذلك كان لابد – إلى جانب منطق صوري من لوازمه التي ستحترم: الانسجام، العقلانية، الكونية- تصور منطق محسوس من شأنه أن يشرح مناهج العلوم المختلفة من الداخل، بل وأن يخلق بينها رابطا[5].»
اعد المنطق تلك التي اعتبرت بمثابة أدوات التحليل والبحث لقوانين الطبيعة العامة، «تشكل نظرية تطبيق هي المعرفة[6].»
على هامش موضوع الديالكتيك
يسعى كثير من المعاصرين إلى القيام بتحليل الجدل الهيغلي من أجل نقده، تركز هذا النوع من المقاربة على إبراز التناقض بين منهج الجدل الثوري وبين تطبيقاته العملية. فعلى الرغم من أن الجدل عند هيغل يمثل قوة سلبية خلاقة تدفع إلى التطور والصراع المستمر، إلا أن هيغل نفسه لم يلتزم بهذا المنهج بشكل كامل عند تطبيقه على الواقع التاريخي والسياسي.
تبرز المقاربة الطابع الثوري للجدل الهيغلي كقانون شامل للحركة والتغير في كل من الطبيعة والمجتمع، باعتباره يعتمد على السلب والنفي كقوة دافعة للتطور. لكن هيغل وقع في تناقض عندما حاول صياغة نسق فلسفي مغلق، مما جعله يجمد تلقائيا حركة الجدل. يبرز ذلك في نظريته حول نهاية التاريخ وفي نزوعه إلى اعتبار الدولة البروسية تجسيدًا مطلقا للعقل.
تطور فكر هيغل منذ مرحلة شبابه الثورية الناقدة للكنيسة، حيث بدا مفتونا بالثورة الفرنسية وبالحضارة اليونانية، إلى مرحلة نضجه المحافظة حيث قدس الدولة وروج لنهاية التاريخ.
هذا الانتقال جعل من فلسفته أداة أيديولوجية لتبرير الهيمنة الغربية والمركزية الأوروبية، ونجد هذا النزوع يظهر في عصرنا ضمن خلاصات فوكوياما ورؤيته لنهاية التاريخ.
ويمكن أن ننتبه إلى أن إرث هيغل تنازعه تياران: يساري ثوري ويميني محافظ، وكان للتيار الثاني الأثر الأكبر في تبرير الهيمنة الغربية وما نتج عنها من عدمية ضربت العالم المعاصر بقوة.










